فصل: الضرب الأول: فالنظر فيه في الأسباب المثبتة والموانع المبطلة.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة



.في لزوم العقد وجوازه:

والأصل في بيع اللزوم، والخيار عارض. ثم هو متنوع إلى خيار التروي وإلى خيار النقيصة.

.النوع الأول: خيار التروي:

وهو ما لا يقف على فوات وصف، وسببه الشرط دون المجلس، بل لا يثبت خيار المجلس بالعقد ولا بالشرط.
وحكى القاضي أبو الوليد عن ابن حبيب إثباته تمسكاً بظاهر الحديث الذي رواه مالك في موطئه، وقد قال في عقب روايته: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه.
قال القاضي أبو بكر: يريد أن فرقتهما ليس لها وقت معلوم. قال: وهذه جهالة يقف البيع عليها، فيكون كبيع الملامسة والمنابذة أو كبيع على خيار إلى أجل مجهول، وما كان كذلك فهو فاسد قطعاً. ولا يعارض هذا الأصل بظاهر لم يتحصل المراد منه مفهوماً، إذ تفسير ابن عمر ليس بحجة، ولهذا عدل عن ظاهره الفقهاء السبعة وغيرهم من السلف، وأولوه على أنه قد روي في بعض طرقه: ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله. رواه الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.
وظاهر هذه الزيادة مخالف لظاهر أول الحديث، فإن تأول من أخذ بظاهر الحديث لفظ الاستقالة باختيار الشيخ، تأولنا لفظ الخيار باختيار الاستقالة، وإذا تقابل التأويلان وقف الحديث والقياس في جانبنا.
ثم النظر في خيار الشرط في مدته، وفي حكم الطوارئ فيها.

.النظر الأول: في مدته.

وهي محدودة الأول بزمن العقد، وليست بمحدودة الآخر بزمن واحد، وإن كان لابد من تحديده في الجملة، بل تختلف الحال فيها باختلاف السلع المبيعة بحسب ما يشبه من الحاجة إلى التروي، ويطول ويقصر بحسب الحاجة إلى زيادة التروي نقصه والاختيار للمبيع والسؤال عنه مع سرعة استحالته وإبطاء ذلك فيه.
هذا عقد التأصيل، ولنسرد الروايات في تفصيله:
ففي الكتاب: هو في الدار الشهر ونحو. وفي الواضحة عن ابن الماجشون: الشهر والشهران.
ووجهه أنه يحتاج النظر إلى حيطانها وأساسها ومرافقها واختيار جيرانها ومكانها، مع كونها مأمونة لا تسرع إليها الاستحالة.
وفي الكتاب: في الرقيق الخمسة الأيام والجمعة وما أشبه ذلك.
وقال محمد: الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في عشرة أيام، وأفسخه في الشهر.
وأجاز ابن القاسم في العبد عشرة أيام. وروى ابن وهب: إجازته في الشهر. وأبى ذلك ابن القاسم وأشهب.
ووجه رواية ابن وهب أن الرقيق ذو ميز، وربما ستر ما فيه من الأخلاق والعيوب التي تزهد فيه، ويستعمل ما يرغب فيه مدة فيفسخ في مدة خياره ما لا يكاد أن يستر فيه أمره غالباً، وإن أراد ستره.
وأما الدابة، ففي الكتاب. تركب اليوم وما أشبهه. ولا بأس أن يشترط المسير عليها البريد والبريدين ما لم يتباعد ذلك.
والفرق بينهما وبين الرقيق، أنها لا تميز فتكتم أحوالها، وفي مثل هذه المدة يختبر جنس سيرها وخلقها.
قال القاضي أبو الوليد: ويحتمل أن يريد بركوب اليوم في المدينة: على حسب ما يركب الناس في تصرفاتهم، وسير البريد والبريدين إن خرج عن المدينة ليختبر بذلك بقاء سيرها وصبرها في حالها. قال: ويحتمل عندي أن يضاف إلى ذلك الليلة ليختبر أكلها وحالها في وقوفها ووضع آلتها عليها، ونزعها عنها ولا يشترط من ذلك أكثر مما يحتاج إليه فإنها يسرع التغيير إليها.
وقال أبو محمد عبد الحق: يشترط في الدابة اليومين والثلاثة، كالثوب من غير ركوب، وإنما شرط في المدونة اليوم في الركوب.
وأما الثوب، ففي الواضحة: يشترط فيه اليومين والثلاثة. ولا يشترط لباس الثوب، وإن اشترط استخدام الرقيق وركوب الدابة، لأن استخبارهما إنما يحصل باستعمالها بخلاف الثوب.
وأما الفاكهة كالبطيخ والقثاء والتفاح والرمان والخوخ فقد قال ابن القاسم في الكتاب: إن كان الناس يستشيرون في مثل هذا ففيه الخيار بقدر الحاجة.
ولا يغيب المبتاع على شيء مما لا يعرف بعينه من الفواكه وغيرها.
وقاله ابن القاسم وأشهب لأنه يصير تارة سلفاً إن رده، وتارة بيعاً إن أبى رده.
ولا يجوز في شيء من السلع أن تكون مدة الخيار فيه مجهولة، فإن عقدا على ذلك كقولهما: إلى قدوم زيد، ولا أمارة عندهم على قدومه، أو إلى أن يولد لفلان، ولا حمل عنده أو إلى أن ينفق سوق السلعة، ولا أوان يغلب على الظن عرفاً أنها تنفق فيه، إلى غير ذلك مما يرجع إلى الجهل بالمدة، فالبيع فاسد. لكن إن وقع العقد على أنه بالخيار ولم يعين مدة مجهولة ولا معلومة فالعقد صحيح، ويحمل على خيار مثل السلعة كما تقدم بيانه.
ولو زاد في مدة الخيار على ما هو أمد خيارها في العادة فسد العقد.
قال القاضي أبو محمد: ولا يصح العقد بإسقاط مشترطه له، بخلاف مشترط السلف يسقطه، إذ إسقاطه تمسك بالسلعة، وهو مقتضى الشرط الفاسد لأنه إنما اشترط أن يكون بالخيار بين الإمساك والرد طول هذا الأمد فإذا اختار الإمضاء فقد عمل بمقتضى الشرط الفاسد.
قال الإمام أبو عبد الله: وعندي أنه يد يختلف فيه تخريجاً من مسألة: من أسلم في تمر سلماً فاسداً، فلما فسخ عليه وقضي له برأس ماله أراد أن يأخذ تمراً مثل الذي منع منه، فقيل: ذلك لا يجوز، لأنه تتمة للفساد الذي منع منه، فكأن الفسخ لم يفد.
وقيل: له ذلك.
وإذا اشترط الخيار على الوجه السائغ فلا يتوقف الفسخ به على حضور الخصم أو قضاء القاضي.
ويجوز البيع على خيار غيره أو رضاه أو مشورته. وكذلك الشراء.
فرع:
قال في الكتاب: إذا اشترى على مشورة فلان أو باع على ذلك فلمشترط الخيار أن يأخذ أو يرد وإن لم يشاور.
وقال في مشترط الرضى: إن كان بائعاً فله الاستبداد بالرد والإمضاء دون رضى من اشترط رضاه، وإن كان مشترياً وقف فعله على رضى من اشترط له ذلك.
واختلف المتأخرون في إبقاء التفرقة على ظاهرها، وهو رأي الأكثر، أو المساواة بينهما.
وحمل افتراق الجواب على افتراق السؤال. وهو رأى الشيخ أبي محمد.
وقال بعض المتأخرين: إنما ينبغي أن ينظر، فإن كان اشتراط الرضى منهما جميعاً، ولهما في ذلك غرض، فهو كالوكيل لهما، ليس لأحدهما أن يمضي أو يرد دونه، وإن كان اشتراط الرضى لأحدهما فله أن يسقط رضاه إذا كان له الخيار.
قال غيره منهم: وهذا الذي قاله هو الأصل، لكن إن لم يظهر أحد القصدين فظاهر الكتاب أن له إسقاط الرضي.
وقال ابن حبيب: ليس له ذلك.
قال بعض المتأخرين: وهذا إنما ينبغي أن يكون في حق المشتري، وأما البائع فالأصل بقاء ملكه، فلا ينتقل عنه إلا بدليل يدل على أن واقف الأمر على رضى الآخر. وهذا المعنى هو سبب التفرقة بين البائع والمشتري كما وقع في الكتاب.
ولا يجوز اشتراط النقد في بيع الخيار بوجه لئلا يكون تارة ثمناً وتارة سلفاً فإن نقد بغير شرط جاز.
فرع:
لو عقدا على البت ثم جعل أحدهما الخيار لصاحبه، فقد أجازه في الكتاب.
قال المتأخرون: وإنما يجوز إذا انتقد، لئلا يعطى فيما عليه من الثمن سلعة بالخيار، ولا يثبت خيار الشرط في الصرف. فأما السلم فيجوز فيه خيار اليومين والثلاثة، وعلل بأنه يحتاج إلى السؤال والمشورة مع أن المعقود عليه لا يلحقه بذلك تغير، وإنما منع بعيد الأجل لما في ذلك من مشابهته للكالئ بالكالئ، وذلك مما عفي عن يسيره دون كثيره.
والملك في زمن الخيار للبائع حتى ينقل بالإمضاء، والخيار موضوع لتمام البيع واستقراره، لا للفسخ. وقيل: بل هو للمشتري حتى يرد بالفسخ، فموضوع الخيار على هذا للفسخ لا للإمضاء.

.النظر الثاني: في حكم الطوارئ في المدة.

وحدوث الغلة في أيام الخيار للبائع، كما أن عليه ضمان المبيع. فأما لو اشترى كبشاً وعليه صوف فأمضى البيع لكان الصوف للمبتاع، لأنه مشترى.
ولو ولدت الأمة في مدة الخيار، فإن فسخ البيع رجع الولد مع أمه إلى البائع، وإن أمضى البيع فهل يتبع أمه كالجزء من المبيع أو يبقى للبائع كالغلة واللبن؟ قولان لابن القاسم وأشهب.
التفريع: إن بنينا على قول ابن القاسم أن الولد للمشتري فلا تفريع. وإن قلنا: إنه للبائع كقول أشهب، فهو بيع حصلت فيه تفرقة، فهل ينفسخ أو يجبران على الجمع بينهما؟. قولان: سببهما هل ما أوجبته الأحكام كالمدخول عليه أم لا؟
ثم إذا قلنا: إنهما يجمعان بينهما، فهل يكفي الجمع في حوز أم لابد منه في ملك؟ قولان أيضاً.
قال الشيخ أبو الطاهر: والأصل أن يجمعا في ملك. قال: وقد اعترض فضل بن سلمة هذه المسألة وقال: إنما أجاز ابن القاسم وأشهب البيع ها هنا، وإن كانت أشرفت على الولادة، لأن البائع لم يخبر المشتري بذلك، ولو أخبره لكان البيع فاسداً. وحكى الفساد إذا جاوزت ستة أشهر عن ابن الماجشون.
قال أبو القاسم بن محرز: وهذا الذي قاله غير صحيح، لأن المشهور أن علم أحد المتبايعين بالفساد يوجب فساد البيع. قال: وإنما المسألة مبنية على أن البيع صحيح لأن المريض والحامل وإن بلغا إلى حد الخوف عليهما لا يمنع بيعهما، إلا أن يكونا في السياق.
قال الشيخ أبو الطاهر: وقد أنتج قوله وقول فضل أن الأصلين مختلف فيهما، وهما: علم أحد المتبايعين بالفساد، والخلاف فيه معروف في المذهب، والثاني أن المريض إذا بلغ حد الخوف ولم يبلغ السياق مختلف فيه هل يجوز بيعه أم لا؟.
قال: ويمكن بناء المسألة على كل واحد من الأصلين.
وإذا وهب للعبد مال في أيام الخيار، فقال: في الكتاب: هو للبائع. قال أبو بكر بن عبد الرحمن: إلا أن يكون المشتري قد استثنى ماله، فالمال الذي وهب له للمشتري.
بخلاف ما وهب للعبد الرهن، فإنه لا يدخل في الرهن.
قال: والفرق أن المشتري ملك العبد وماله والمرتهن ليس حقه، إلا فيما جعل رهناً خاصة. هذا حكم التغيير بزيادة.
فأما النقص فلا يخلو أن يكون جناية أو غيرها. فإن كان جناية فلا تخلو أن تكون من البائع، أو من المبتاع، أو من أجنبي. فإن كانت من البائع، فإما أن يكون الخيار له أو للمشتري، فإن كان له وكان عمداً فقولان، أحدهما: أن جنايته رد للبيع، وهو أصل ابن القاسم. والثاني: أنها ليست برد له، وهو مذهب أشهب.
التفريع: إن قلنا: إنها رد، فإن كانت مثلة في الرقيق عقت عليه.
وإن قلنا: إنها ليست برد، فيكون المشتري بالخيار أيضاً في القبول بذلك العيب أو الرد.
وإن كانت الجناية خطأ فلا شك أنها ليست برضى، ويخير المشتري كما قلناه.
وإن كان الخيار للمشتري فجنى البائع عمداً، فإن أتلف المبيع ضمن للمشتري الأكثر من الثمن أو القيمة، لأن له أن يأخذه بحكم التعدي، وإن لم يتلف المبيع كان للمشتري أن يغرم البائع قيمة الجناية، ويأخذه معيباً ويدفع الثمن أو يرده. وإن كانت الجناية خطأ فإن أتت على النفس أنفسخ البيع، وإن كانت دونها خير المشتري بين أخذه ناقصاً ولا شيء له، أو رده.
وإن كانت الجناية من المشتري والخيار للبائع، فسواء كانت عمداً أو خطأ، البائع مخير بين أخذه بحكم الغرامة أو إمضاء البيع. وإن كان الخيار للمشتري فإن جنى عمداً فقد تقدم الخلاف هل يعد ذلك رضى بالبيع أم لا. ولو كان المبيع من الرقيق لنظرت هل ما فعله مثله فيعتق عليه أو ليس بمثله فلا يعتق؟ وإن كانت جناية خطأ فقال في الكتاب: يرده إن شاء وما نقص. وإن كان عيباً مفسداً ضمن الثمن كله.
وقال سحنون: إنما يضمن بالقيمة.
وأجرى أبو القاسم بن محرز هذا الخلاف على الخلاف فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، هل يضمن ثمنها أو إنما يضمن قيمتها؟
وإن كانت الجناية من أجنبي استوى الخطأ والعمد في الغرامة، وخير من له الخيار. فإن اختار إمضاء البيع فالأرش للبائع.
وقال ابن حبيب: هو للمشتري.
قال الشيخ أبو الطاهر: وهو على الخلاف في المترقبات متى بعد حصولها أيوم ترقبت أو يوم تحققت؟ فإن قيل: بماذا ينقطع الخيار؟ قلنا: بأن ينطق وينص على أحد الوجهين، أو يكون منعه على ما يدل على ذلك وهو على وجهين: ترك وفعل. فأما الترك فمثل إمساكه عن القول والفعل الدالين على تعيين أحد الوجهين إلى أن تمضي مدة الخيار، ولا يكون ممن له الخيار نطق ولا إحداث فعل، فإنه يستدل بتركه على قصده، فإن كان الخيار للبائع والسلعة في يده كان ذلك دليلاً على أنه اختار الفسخ، وإن كانت في يد المبتاع كان ترك ارتجاعها واستدعاء البائع لردها دليلاً على اختياره الإمضاء، كما أن تركه لها في يد بائعها دليل على اختيار الفسخ، فتبقى السلعة في يد من هي بيده.
وأما الفعل، فإن أحدث المشترط للخيار فعلا في المبيع لم يخل من أحد أمرين: إما أن يدل في العادة على الإمضاء أو الرد. وإما أن يكون محتملاً ليس بظاهر الدلالة. فإن كان دالاً عمل بمقتضاه، وإن كان محتملاً بقي من له اختيار على حقه منه، ولم يسقط بالاحتمال إذ الأصل بقاؤه حتى يتحقق إسقاطه، فإن اتهم على أنه قصد الإسقاط استظهر عليه باليمين.
وقد قسم بعض المتأخرين الأفعال في ذلك على ثلاثة أقسام:
الأول: متفق على أنه يعد رضى كالعتق والكتابة والاستيلاد، وتزويج الأمة وأمثالها.
فهذه من المشتري تدل على الإمضاء، ومن البائع تدل على الفسخ.
القسم الثاني: لا يعد رضى باتفاق كاختبار الأعمال وشبهه فوجوده كعدمه.
القسم الثالث: مختلف فيه، وهو كرهن المبيع وإجارته وإسلامه للصنائع، وتزويج العبد والسوم بالسلعة، وشبه ذلك من المحتملات.
فمذهب ابن القاسم أن ذلك يقطع الخيار. ومذهب أشهب أن ذلك ليس بقاطع له.
قال بعض المتأخرين: وهو خلاف في شهادة هل ذلك دال على قطع الخيار فيكون قاطعاً أو هو محتمل فلا يكون قاطعاً؟
والاعتماد في هذا القسم على ما يظهر من قرينة الحال. قال سحنون: وكل ما يعد من المشتري قبولاً فهو من البائع إذا كان له الخيار فسخ.
قال أبو الحسن اللخمي: ولا يجري ذلك مطلقاً، لأن الغلات للبائع، فإذا آجر أو أسلم للصناعة فإنما فعل بملكه ما يملكه. قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا الذي قاله أبو الحسن يختلف الأمر فيه، فإن طول الإجارة ومدة التعليم، فيظهر مع هذا أنه قصد الرد.
فرع:
لو ابتاع عبداً بأمة بالخيار، ثم أعتقهما معاً في مدة الخيار تعين العتق في الأمة، لأنها باقية على ملكه، ويلزم من عتقها رد العبد، فلا ينفذ عتقه.
فإن قيل: ما حكم من طرأ عليه في أيام الخيار ما يمنعه من الاختيار بالإمضاء أو الرد؟.
قلنا: قد تقدم أن بانقضاء المدة من غير إحداث ما يقتضي الاختيار يلزم البيع وينتهي الخيار.
وهذا مع سلامة من شرط له الخيار إلى انقضاء أمده. فأما إن طرأ عليه ما يمنعه من الاختيار فلا يخلو أن يطرأ عليه ما لا يرجى زواله كالموت أو ما يرجي زواله كالجنون والإغماء.
فإن مات في المدة فإن الحق ينتقل إلى وارثه، فإن اختلف الوارث فليس لمن أجاز التمسك إلا بالجميع. وأما إن جن فالسلطان ينظر له في الإجازة والفسخ.
واختلف إذا أغمي على المشتري. فقال ابن القاسم: يوقف حتى يفيق. وليس للسلطان أن يأخذ للمغمي عليه لكون الإغماء مرضاً يرجى زواله عن قرب، فلم يكن له الشراء لرشيد حال بينه وبين النظر لنفسه حائل يرجى زواله عن قرب. فإن طال به الإغماء فسخ البيع للضرر الذي يلحق الآخر في إيقاف صفقته.
وقال أشهب: له أن يقيم له من يجيز أو يرد في مدة الخيار قياساً على من جن. إلا أن تمضي مدة الخيار قبل أن يعثر على ذلك فلا بد من فسخ البيع.

.النوع الثاني: خيار النقيصة:

وهو ضربان:

.الأول: ما ثبت بفوات أمر مظنون:

نشأ الظن فيه من التزام شرطي أو قضاء عرفي أو تغرير فعلي.

.والثاني: ما ثبت عن غبن فاحش.

فأما:

.الضرب الأول: فالنظر فيه في الأسباب المثبتة والموانع المبطلة.

.النظر الأول: في الأسباب.

.السبب الأول: الالتزام الشرطي:

وهو الأصل، وما عداه ملحق به، فمهما شرط وصفاً يتعلق بفواته نقصان مالية ككونه تاجراً أو صانعاً أو غير ذلك من الصفات المقتضية لزيادة الثمن في العادة، فإذا فقد ثبت الخيار للمشتري.
ولو شرط ما لا غرض فيه ولا مالية لغا الشرط ولم يثبت له خيار.
وقال الشيخ أبو الطاهر: يمكن تخريج الخلاف فيه من الخلاف في إلزام الوفاء بشرط ما لا يفيد.
وإن شرط ما فيه غرض ولا مالية فيه، فقولان منصوصان في إلزام الوفاء به.
فرع:
لو ظهر المبيع أعلى مما شرط، كعبد شرط فيه جنساً فوجد من جنس أعلى منه، فلا خيار للمشتري بذلك، إلا أن يتعلق له بذلك الجنس غرض يظهر، فيثبت له حينئذ الخيار.

.السبب الثاني: القضاء العرفي:

وهو العيب، لأنه دخل على السلامة فيه. والمثبت للخيار منه ما أثر نقصاً في المبيع أو الثمن أو في التصرف أو خوفاً في العاقبة. ثم يكون ذلك بنقصان وصف أو زيادته، وقد يكون بنقصان عين. ثم منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه. ومنها ما يخص ومنها ما يعم، على ما يأتي تفصيل ذلك وبيانه في نقل الروايات، وذلك كالعمى والعور والقطع ونحوه. وكالخصاء فإنه عيب، وإن زاد في القيمة، لأن النقص محقق ولا يجبر بما زاد لأجل غرض آخر. وسقوط ضرسين فأكثر عيب، وكذلك الضرب الواحد في العلي دون الوخش، وكالحمل فإنه عيب في النوعين في رواية ابن القاسم. وروى أشهب تخصيصه بالعلي دون الوخش.
ونزل أبو بكر بن عبد الرحمن رواية أشهب على المجلوبة من العجم. قال: لأن المقيمة بالبلد يكون حملها من زوج أو زنا وكلاهما عيب.
وأطلق في الكتاب: أن كون الأمة زلاء صغيرة الكفل والردف ليس بعيب، وقيده كثير من المتأخرين بالنقص اليسير الذي بفاحش ولا خارج عن العادة.
وقد أشار في كتاب محمد إلى هذا التفسير، فقال: إلا أن تكون ناقصة الخلق..
وفيه أيضاً من رواية أشهب أن المشتري إذا اطلع على أن الأمة صغيرة القبل إنه لا رد له به إلا أن يكون فاحشاً. وهذا يعضد التأويل المتقدم في مسألة الزلاء.
والشيب الكثير في الرائعة عيب، والقليل منه فيها مختلف فيه. وليس الشيب بعيب في الوخش إذا لم ينقص الثمن.
والاستحاضة عيب في العلي والوخش جميعاً. والبول في الفراش عيب في العبيد والإماء إذا كانوا في سن من يستنكر منه ذلك في العادة.
وفي الكتاب: إن التخنث في الذكران والفحولة في النساء عيب. وشرط في الأمة أن تشتهر بذلك.
وذكر ابن حبيب: أن ذلك إنما يكون عيباً إذا كان الذكر يؤتى، والأنثى فحلة لشرار النساء. وأما التأنيث من جهة التكسر في المعاطف والنطق فإنه ليس بعيب.
واختلف المتأخرون: هل كلام ابن حبيب هذا خلاف لما في الكتاب أو تفسير له؟ على قولين:
الأول: للشيخ أبي محمد. والثاني: لغيره. ورد الشيخ أبو عمران قول ابن حبيب بأنه قد ذكر في الكتاب كون الأمة اشتهرت بذلك. قال: فلو كان المراد ما قال، لم يحتج إلى التكرار. قال: وإنما قيد في الأمة بالاشتهار لكون فحولتها لا تضعف شيئاً من أعمالها، لكن اشتهارها بهذا نقص وعيب. وقد جاء في الحديث أنها ملعونة.
وأما الذكر فإنه يستدل بتخنثه في حركاته وألفاظه على ضعف قوته وعمله. وذلك عيب وإن لم يشتهر.
والثيبوبة في الأمة ليست بعيب، ولا رد للمبتاع بوجودها ما لم يشترط البكارة، إلا أن تكون الأمة في سن من لا تفتض في العادة، فتكون البكارة كالمشتركة عادة.
وكذلك نداء المنادي عليها أنها بكر يقوم مقام الاشتراط والعسر عيب، والأعسر هو الذي لا يعمل إلا بيساره.
فأما الأضبط، وهو الذي يعمل بكلتي يديه، فليس بمعيب إلا أن ينقص عمل اليمين به عن المعتاد لأجل مشاركة الشمال لها في القوة، فيكون عيباً، ولا يجبر ضعف اليمين بقوة الشمال.
ومن العيوب العامة في العبيد والإماء الزنا والسرقة وشرب الخمر والبخر في الفم والزوج.
ومنها الاطلاع على أن لأحدهما قرابة قريبة كالوالدين أو الأولاد، فإنه عيب، لأن قوة الألفة لهم والحنين إليهم تبعث على الإباق إليهم وإيثارهم بما في يده من القوت وغيره، فأما غير هؤلاء من الأقارب كالأعمام والأجداد والإخوة، فلا يرد بالاطلاع عليهم. ومال بعض المتأخرين إلى أن الجدة للأم في الحنين إليها كالأم. ورأى الإمام أبو عبد الله أن هذا ينبغي أن يرجع فيه إلى العادة. ومنها: الاطلاع على أن في آباء العبد أو الأمة مجذوماً، فإنه عيب لما يتقى من غائلته في النسل، إذ قد يكون فساد في النطف، فيتعدى في النسل.
وكذلك الجنون إذا وجد بأحد الآباء من فساد الطباع. وأما إن كان من مس الجان فلا رد به، إذ لا يخشى منه التعدي في النسل.
وأما كون أحدهما ولد زنا فإنه عيب في العلي من الذكور والإناث. واختلف في كونه عيباً في الوخش.
ولو اطلع على أن في آباء الأمة أسود لم يكن عيباً في الوخش. واختلف في كونه عيباً في العلية لما يتوقع من كون الولد أسود.
ولو وجد العبد أقلف والأمة غير مخفوضة لاختلفت الحال، فإن كانت مجلوبة من رقيق العجم، ولم تطل إقامتها ببلدنا فلا رد للمشتري به، لأنه على ذلك دخل. فإن كانوا ممن طالت إقامتهم عندنا، أو ولدوا عند المسلمين فذلك عيب في العلي منهم، واختلف في كونه عيباً في الوخش.
ولو قالت الأمة: ولدت من الذي باعني، فروى ابن القاسم أنها لا تحرم على المبتاع إلا أنه عيب.
قال ابن القاسم: يريد إذا باعها هذا فليبين، إذ لا يقدم أهل الورع على هذا.
فروع: الأول: إن مقتضى ما تقدم من كون وجود العيب يقتضي ثبوت الخيار للمشتري في الرد ثبوته له إذا وجد بحائط الدار صدعاً ينقص من ثمنها، لكن قال في الكتاب: إن كان يخاف على الدار أن تنهدم بسببه كان له الرد به، وإن كان لا يخاف ذلك فلا رد له به.
ووقف في الجواب عند هذا وتممه محمد فقال: لا يرد به، ولكن يرجع بقيمة العيب إذا كان يسيراً. قال: وكذلك في كل عيب.
قال الإمام أبو عبد الله: وهذا الذي ذكره محمد هو الظاهر. والمراد بما أطلقه في الكتاب، فقد قال في كتاب القسم منه: إن أحد الشريكين إذا اطلع فيما صار إليه بالانقسام في الربع على عيب يسير قضى له بقيمته. قال الإمام: وقد أكثر المتأخرون القول في الفرق بين الديار وما سواها من المبيعات. وذكر عنهم فروقاً عديدة، وقدح فيها. ثم قال: والنكتة التي يحوم الجميع عليها اعتبار الضرر بالعيب وحصوله والنظر في مقداره فيما يخف ويكثر. قال: وقد ذهب بعض الأندلسيين إلى أن الدور ترد بالعيب اليسير كسائر السلع. قال: وهذا هو مقتضى القياس والظاهر، وإنما سلك الآخرون ذلك لما تقدم من اختلاف أحوال المبيعات في حكم الضرر بالعيب ومقداره.
فرع مرتب:
إذا اعتبرنا الفرق بين اليسير والكثير، وقلنا: إنها لا ترد باليسير فما هو اليسير؟.
اختلف المتأخرون في مقداره قال بعضهم: هو ما كان لا يأتي على معظم الثمن.
وقال غيره: اليسير فيه ما نقص عن الثلث.
وأشار غيرهما إلى اعتبار كون العيب شاملاً لجميع الدار من جهة التأثير والقصد، كبطلان بئرها بطلاناً لا ينصلح أو مأجلها أو سقفها أو قناتها. ورأى أن ما كان كذلك يوجب الرد، لأنه كعيب استولى على الكل.
الفرع الثاني:
في حكم العيوب التي لا يمكن أن يطلع عليها إلا بعد تغير هيئة المبيع كخشبة تشق فيوجد باطنها عفناً أو مسوساً. وكذلك الجوز والتين وشبه ذلك. وكذلك جلود اشتريت فلم يمكن الاطلاع على ما فيها من عيب إلا بعد دباغها. فما كان من هذا الجنس فلا يثبت للمشتري خيار الرد به في الرواية المشهورة.
قال فيها: لأنه أمر ثابت، عليه يدخل البائع والمشتري والتبايع عليه وقع. وروى أنه يرد به كغيره من العيوب.
وفرق ابن حبيب فلم يثبت الخيار من ذلك بما كان في أصل الخلقة، وأثبته بما طرأ منها بعد السلامة منه فيها لسبب اقتضاه.
واختلف المتأخرون: هل هذا قول ثالث في المسألة أو هو خارج عن محل الخلاف؟ إذ يمكن الاطلاع على السبب الحادث وعلم البائع به، كوضع الخشبة في موضع ندي، وشبه ذلك.
ووقع في كتاب محمد لأشهب وغيره: أن ما يمكن اختياره من ذلك والاطلاع عليه حال العقد كالجوزة والجوزتين والقثاءة والقثاءتين، فللمشتري الرد إذا وجد باطنه رديئاً.
وفي كتاب محمد أيضاً: أن الأحمال لا يرد ما وجد منها فاسداً إلا أن يكون الحمل بكماله فاسداً، فإن ذلك لا يكاد يخفى على بائعه.
الفرع الثالث:
في اعتبار حالة حدوث العيب.
والضابط فيه أن كل حالة يكون ضمان المبيع فيها باقياً على بائعه لم ينتقل إلى المبتاع بعد. فحدوث العيب فيها يقتضي الخيار للمبتاع في الرد به. وكل حالة انتقل الضمان فيها على المبتاع فلا رد له بما يحدث فيها من العيوب.

.السبب الثالث: التغرير الفعلي:

وفيه فصلان:
الأول في حد السبب، والثاني في حكمه.

.الفصل الأول: في حده:

وهو أن يفعل البائع في المبيع فعلاً يظن به المشتري كمالاً فلا يوجد كذلك. والأصل في اعتبار هذا السبب قوله صلى الله عليه وسلم: ولا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر.
ومعنى التصرية: جمع اللبن في الضرع وترك حلابه حتى يعظم، فيظن المشتري لذلك غزارة اللبن، فنزل ذلك منزلة اشتراط الغزارة المظنونة، فوجب الخيار لفقدها وصار ذلك بمنزلة من اشترط في الشاة أنها تحلب قسطا ًمن اللبن، فوجدها على خلاف ذلك فإن له الرد.
أما لو ظن غزارة اللبن لكبر الضرع، فكان ذلك لحماًَ، لم يثبت له بذلك خيار. وكذلك إذا اشترى غير مصراة فوجد حلابها قليلاً فلا رد له إلا أن يكون البائع يعلم مقدار حلابها، فباعها له في إبان الحلاب، ولم يعلمه ما لم يعلم منها، فله الخيار، لأن البائع صار كبائع طعام يعلم كيله، والمشتري لا يعلم، فله رده، ولو كان في غير إبان لبنها فلا رد له وإن علم البائع منها ما لم المبتاع وقال أشهب: بل يردها.
وإن اشتراها في غير الإبان إذا حبسها حتى جاء الإبان وأقر البائع أنه كان عالماً بحلابها، حلب المشتري أو لم يحلب، إذا كانت شاة لبن.
وقال محمد: إن زيد في ثمنها لمكان اللبن، كان المشتري مخيراً، لأن على البائع أن يعلمه إذا كان المقصود منها اللبن. ثم حكم الإبل والبقر حكم الغنم، إذا كان المقصود منها اللبن.
وفي معنى التصرية تلطيخ ثوب العبد بالمداد ليخيل بذلك أنه كاتب. وكذلك كل ما أشبهه من التغرير بالفعل.

.الفصل الثاني: في حكم السبب:

وهو الخيار، فإذا علم المشتري أن الشاة مصراة قبل أن يحلبها كان له أن يردها قبل الحلاب، وأن يمسكها ويحلبها ثم يختبرها، وينظر كيف عادتها، ومقدار ما تنقص عن التصرية.
وكذلك لو لم يعلم بالتصرية إلا بعد أن حلب، لكان له الخيار بين أن يرد أو يمهل حتى يحلب ثانية ويعلم عادتها. فإن احتلبها الثالثة فقال محمد: ذلك رضى.
وفي الكتاب من رأى ابن القاسم أنه إذا جاء من ذلك ما يعرف أنه كان قد اختبرها قبل ذلك فما حلب بعد ذلك فهو رضى منه بالشاة ولا يكون له ردها.
وقال مالك في كتاب محمد: له أن يرد ولو حلب الثانية. وهو مقتضى الحديث. والظاهر أن الثانية لا توقف على العادة لقربها من زمن التصرية.
ثم حيث كان له الخيار فاختار ردها فليرد معها صاعاً من التمر للحديث وهو بدل عن اللبن كائن في الضرع لدى العقد لعسر تمييزه، ولدفع الخصومة فيه. فلو أراد أن يرد اللبن بعينه عوضاً عن الصاع المأمور به لم يكن له ذلك، لأن الصاع لم يجب لفوات اللبن، بل لما ذكرناها. بدليل أنه لم يضمن بالمثل. قاله ابن القاسم. ثم قال: ولو وافق البائع المشتري على ذلك لم يصح إذ يدخله بيع الطعام قبل قبضه.
وقال سحنون: إذا رده بعينه فهي إقالة.
والإقالة في الطعام جائزة.
ثم قدر الصاع متعين، فلا يزاد عليه لكثرة اللبن وغزارته، ولا ينقص منه لقلته ونزارته، ولا يلتفت إلى غلائه ورخصه، بل قد قال بعض المتأخرين: إن كانت قيمته تساوي قيمة الشاة أو تزيد عليها، فظاهر المذهب أن عليه الإتيان به.
وأما جنس المخرج فقال القاضي أبو الوليد: روى ابن القاسم أنه يكون من غالب قوت البلد.
ووجهه: أنه قد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث في رواية ابن سيرين: صاعاً من طعام فيحمل تعيين صاع التمر في المشهورة على أنه كان غالب قوت ذلك البلد.
فرعان: الأول: إذا تعددت الماشية المصراة، فقال أحمد بن خالد الأندلسي فيما ذكر عنه: يكتفي فيه بصاع واحد لجميعها، كما اتخذ في لبن الناقة، وإن ساوى لبن عدة من الشاء.
وقال أبو القاسم بن الكاتب: تتعدد الصيعان بتعدد الماشية. واعتبر ذلك بغرة الجنين، واعتذر من اتخاذ الصاع في لبن الناقة بأن الكثرة في لبنها مقابلة بالجودة في لبن الشاة.
الفرع الثاني:
لو رضي بعيب التصرية، ثم رد بعيب آخر غيره، فقال محمد: لا يرد عوض ما حلب، ورأى قصر الحديث على ما ورد فيه. وذكر عن أشهب أنه يرد الصاع. ومال إليه بعض المتأخرين.

.النظر الثاني: في مبطلات الخيار وموانعه:

وهي صنفان:

.(المانع) الأول: ما يبطل الرد على الإطلاق:

وذلك أمور أربعة.
الثاني: شرط البراءة من العيب. والمشهور من المذهب: جوازه والانتفاع به. وروي أنه لا ينتفع بالبراءة مطلقاً.
قال الإمام أبو عبد الله: من المتأخرين من يحكي هذه الرواية عن مالك حكاية مقيدة، فيقول: لم يختلف قلوه في جواز البراءة من العيب اليسير، ولا في ثبوت البراءة في بيع السلطان، ولا في سقوط عهدة الثلاث وعهد السنة في البيع الثابت فيه البراءة.
قال: وسبب هذا الاختلاف أن النهي ورد عن بيع الغرر واشتراط البائع على المشتري ألا يرد عليه بعيب يطلع عليه يتضمن عقد الشراء على مبيع غير معلوم ولا محاط به، وبيع ما لا تعلم حقيقته لا يختلف في منعه كبيع الإنسان ما في يده أو ما في نهره من الحيتان، لكون المشتري دخل على العبد المشتري إن وجده أعمى أصم أبكم لزمه الشراء بالثمن الذي بذل، وإن وجده على صفة كمال سالماً من العيوب كان ذلك له.
وأما وجه الجواز في الجملة فما أشار إليه ابن حبيب من حكم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما بإمضاء البيع المشترط فيه البراءة، ومن كون الضرورة قد تمس إلى ذلك وتدعو إليه الحاجة والمصلحة، فعفي عنه كما يعفى عن عقود تضمنت غرراً للضرورة الداعية إلى العفو عن ذلك.
وإذا فرعنا على المشهور، فهل يعم الانتفاع بشرط البراءة جميع المبيعات أو يتخصص ببعضها؟
ذكر ابن حبيب عن مالك أنه يعم جميع البياعات عرضاً كان المبيع أو حيواناً. وحكاه أيضاً عن ابن وهب، وحكاه غيره عن ابن كنانة.
وروي تخصيص حكم البراءة ببعض المبيعات. واختلف في تعيينه، فروي تخصيصه بالحيوان خاصة صامتاً كان أو ناطقاً، وهو مذهب الموطأ. وروي تخصيصه بالحيوان الناطق خاصة، وهو مذهب الكتاب.
وسبب هذا الاختلاف أن بيع البراءة إنما عفي عنه لاستواء البائع والمبتاع في الجهل بالعيب. ومقتضى ذلك جواز بيع البراءة في العروض وسائر التملكات، لكن من قصر ذلك على الحيوان رأى أن الحيوان تتلون أحواله بالصحة والسقم، ولا يكاد يحاط بعيوبه، فيقوى تصديق البائع بأنه جهل العيب الذي فيه، حتى يعتقد أنه استوى علمه وعلم المشتري في العيب، بخلاف العروض.
وأما قصر ذلك على الحيوان الناطق فعلل بأمرين متقابلين: أحدهما أن الرقيق يخبر عن نفسه، لكونه من ينطق ويعرب عن نفسه، فإذا لم تقع منه شكوى لما أصابه من المرض لم يعلم سيده ما به، فعذر بكونه جاهلاً بالعيب وصدق فيما قال.
والأمر الثاني أن الرقيق يكتم عيبه ويستره عن سيده مخافة أن يزهد فيه فيبيعه، فعذر سيده في جهله بعيبه، وصدق في أنه لم يعلم، بخلاف البهائم التي لا تكتم عيبها.
فروع: الأول: إذا قلنا: إن بيع شرط البراءة ينفع فبيع السلطان وبيع الميراث إذا علم أنه ميراث جار مجرى بيع البراءة وإن لم يشترط.
الفرع الثاني:
حيث قلنا: إن البراءة تنفع، فإنما منفعتها في دفع الرد بعيب لم يعلم به البائع دون ما علم به كما تقدم، فلو ادعى على البائع العلم فاعترف رد عليه.
وكذلك إن طلب باليمين حين توجهت عليه فنكل عنها. وإن حلف فلا رد عليه به.
واختلف إذا باع الإنسان مال نفسه، هل يسوغ له أن يبيعه بالبراءة وإن لم يختبر المبيع وإنما باعه بحدثان ملكه، أو لا يسوغ له ذلك إلا بعد اختبار المبيع؟ فالمشهور أنه لا ينفعه التبري من العيوب إلا بعد اختبار المبيع.
قال في الكتاب، في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلاً، لا تنفعهم البراءة.
وقال عبد الملك وغيره: تنفعهم البراءة في ذلك.
الفرع الثالث:
إذا تبرأ البائع من عيب، وذكره في جملة عيوب ليست موجودة في المبيع لم تنفعه البراءة، حتى يفرده بالبراءة منه، ويعين موضعه، ويعلمه جنسه ومقداره ظاهراً وباطناً، فلا يبقى للمبتاع فيه قول، وكذلك لو اقتصر به على مشاهدة لا تقتضي الإحاطة به، أو تبرأ إليه منه بخبر ولفظ فيه احتمال لم يبرئه ذلك، كما لو باعه بعيراً وتبرأ إليه من دبرته، وهي منغلة مفسدة فأراه إياها، ولم يذكر ما فيها من نغل وغيره، فلا يبرأ حتى يذكره.
وكذلك لو تبرأ في العبد من إباق أو سرقة، والمبتاع يظن إباق الليلة، أو إلى مثل العوالي من المدينة، أو سرقة الرغيف، فيوجد بنقب، أو قد أبق إلى مثل مصر أو الشام من المدينة، فلا يبرأ حتى يبين أمره.
تقرير: قال أبو القاسم بن الكاتب: لم يختلف قول مالك في أن بيع السلطان على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت بيع براءة وإن لم يشترطها. قال: وإنما كان كذلك لأنه حكم منه بالبيع، وبيع البراءة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به.
قال الإمام أبو عبد الله: قول أبي القاسم بن الكاتب فيه نظر عندي، فإن السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ووفاق، ولا قصد إلى حكم بإنفاذ بيع على البراءة، فينفذ حكمه، وإنما فعل في نفسه فعلاً أوجبه الشرع عليه. ثم حكى عن بعض أشياخه أنه يرى إثبات الخلاف في بيع البراءة، ولو كان السلطان هو الذي يتولى البيع، وأنه تعلق في ذلك بقول سحنون، وكان قوله القديم أن بيع السلطان وبيع المواريث لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة. قال: فقوله: كان قوله القديم، إشارة منه إلى أن له قولاً آخر، ويتعلق أيضاً بقول ابن القاسم؛ إذا بيع عبد على مفلس، فللمشتري أن يرد بالعيب. قال: ففي هذا أيضاً إثبات الخلاف في بيع السلطان.
قال الإمام: وأما بيع الورثة لقضاء ديون وتنفيذ وصايا، فإن فيه الخلاف المشهور.
قال: فاقتصر مرة على ثبوت البراءة في بيع السلطان خاصة. وأضاف مرة إلى ذلك بيع أهل الميراث، ومراده من ذلك ما باعوه لقضاء دين أو نفاذ وصية. وأما ما باعوه لأنفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فلا حق ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة. وكذلك من باع للإنفاق على من في ولايته.
فرع مرتب: إذا قلنا بأن بيع السلطان بيع براءة، فظن المشتري أن البيع واقع ممن لا تنفذ أحكامه، بل هو بيع رجل مال نفسه، فإنه لا يسقط مقاله في العيب، ويكون بالخيار بين أن يتمسك بالمبيع على البراءة من العيوب أو يرده. وقيل: لا مقال له في العيوب.
وحمل هذا القول على أن قائله ادعى ما لا يشبه لكونه بيع السلطان مما لا يخفى لكونه في غالب العادة إنما يكون في مجمع واحتفال، وإنما حمل بيع الورثة لقضاء دين أو إنفاذ وصية على بيع البراءة لكون الديون كالوصايا يجب إنفاذها، ومن حق أهلها أن تعجل لهم حقوقهم إذا طلبوها، والسلطان والورثة والوصي غير عالمين بأحوال المبيع وهو مطالبون باستعجال البيع فحمل بيعهم على البراءة لأجل ذلك، بخلاف بيع الإنسان مال نفسه.

.المانع الثاني: فوات المعقود عليه حساً بالتلف، أو حكماً بالعتق:

ونحوه من الاستيلاد والكتابة والتدبير. فلو اطلع على عيب بالعبد بعد فواته فلا رد إذ لا مردود. وإذا عجز عن الرد فله الأرش، وهو الرجوع إلى جزء من الثمن يعرف قدره بمعرفة نقصان العيب من قيمة المعيب، فيرجع من الثمن بمثل نسبته.
فرع:
فإن كان العذر رد عين المبيع مع بقاء الملك فيه لتعلق حق به، كالمستأجر والمرهون، فقال ابن القاسم: يرده متى عاد إلى يده.
وقال أشهب: إذا لم يخلصه من الرهن معجلاً ولا من الإجارة، حكم له بقيمة العيب.
واختار ابن حبيب مذهب أشهب إذا بعد زمن تخليصه من الإجارة والرهن. ومذهب ابن القاسم: إذا قرب ذلك كالشهر ونحوه.
وإذا كان تعذر الرد لعقد انتقل به الملك إلى غيره، فإن كان بغير معاوضة كالعطايا رجع بقيمة العيب، وإن كان بمعاوضة كالبيع وما في معناه، فإن كان من البائع وقد أخذ منه فيه الثمن الأول فلا كلام له، وإن أخذ منه دونه استتم ما بقي منه.
وإن باعه له بأكثر منه فإن كان مدلساً، أعني البائع الأول، فلا رجوع له، وإن كان غير مدلس رد على البائع الثاني، ثم رد عليه ليرجع له ما زاد على الثمن الأول.
وإن كان البيع من غير البائع فروى ابن القاسم بلاغاً أنه لا يرجع بشيء.
قال ابن القاسم: لأنه في بيعه على وجهين: إن باع بمثل الثمن فقد عاد إليه ثمنه. وإن باع بأقل فإن النقص لم يكن لأجل العيب.
وقال أشهب: إذا باع ذلك ولم ينقص منه لم يرجع بشيء، وإن نقص منه شيئاً كان له أن يرجع عليه بالأقل مما نقص أو من قيمة العيب.
وروي أيضاً أنه إن كان لم ينقص من الثمن في البيع لم يرجع بشيء، إذ ماله عند الرد إليه. وإن نقص من الثمن الذي اشترى به كان البائع مخيراً بين أن يكمل له الثمن أو يعطيه قيمة العيب من الثمن الذي قبض منه.
وكأنه في هذه الرواية قدر المبيع فائتاً في حق البائع خاصة، فخيره إن شاء جعله قائماً فأكمل له ما نقص من الثمن إذ ليس له سواه، وإن شاء جعله فائتاً فأعطاه قيمة العيب.
وما قاله في هذه الرواية هو مذهب أشهب، وهو اختيار ابن حبيب.
وقال مالك في المختصر: يقضي للمشتري بقيمة العيب، وهو تقدير للفوت في حقهما جميعاً، كالحكم في الموت وهو اختيار محمد بن عبد الحكم، وأضاف ذلك إلى الموطأ، فقال: قد قال مالك رضي الله عنه في موطئه: إذا فات المبيع بشيء من وجوه الفوت كان فيه قيمة العيب.
قال: والبيع أحد وجوه الفوت. وهذا المذهب هو اختيار القاضي أبي محمد.
فرع:
فإن عاد المبيع إلى البائع المبتاع، فإن كان الرد من المبتاع الثاني لأجل العيب فله الرد على البائع الأول، لأن العائد هو المالك الأول. وإن عاد إليه بملك مستأنف فله رده على الأول أيضاً.
وقال أشهب: هو بالخيار، إن شاء رده على من اشتراه منه، وإن شاء رده على البائع الأول. فإن رده على المشتري كان المشتري بالخيار بين أن يتمسك به أو يرده عليه، فيرده هو على البائع الأول إن شاء.
وسبب الخلاف: أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد؟